ا
لحضارات السائدة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم
أبوحسام الدين الطرفاوي
كانت هناك حضارات قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، ودول عظمى لها الهيمنة والسيطرة على قطاع كبير من الأرض ،وكانت هذه الحضارات غارقة في الفساد والظلم ، وعلى رأس هذه الحضارات أو الدول العظمى : الفرس في جهة المشرق ، والروم في جهة المغرب .
وذكر هذه الحضارات لابد وأن يعقبها ما يماثلها في وقتنا المعاصر حتى نفقه الدرس ونعي العبرة . فكأن التاريخ يعاد بصورة أو بأخرى . والأحداث تتكرر ليعي الإنسان الدرس ويفقه الواقع ،وتبلغه رسالة ربه حتى لا يكون له حجة يوم لا ينفع فيه الندم ولا التغابي ولا الإنكار .
المطلب الأول
الحضارة الفارسية
وكانت من أكبر الدول التي يمتد نفوذها جنوب الجزيرة وشمالها وشرقها ، وهي حضارة وثنية مجوسية تقوم على تقديس النار وعبادتها ، واعتقاد أن للكون إلهين : إله الظلمة ، وإله النور . " وقد كثرت فيها الديانات المنحرفة كالزرادشتية والمانوية التي أسسها ماني في أوائل القرن الثالث الميلادي ، ثم ظهرت المزْدكية في أوائل القرن الخامس الميلادي التي دعت إلى الإباحية في كل شيء ؛ مما أدى إلى انتشار ثورات الفلاحين وتزايد النهابين للقصور ، فكانوا يقبضون أو يأسرون النساء ويستولون على الأملاك والعقارات ، فأصبحت الأرض والمزارع والدور كأن لم تسكن من قبل .
وكان ملوكهم يحكمون بالوراثة ، ويضعون أنفسهم فوق بني آدم ، لأنهم يعتبرون أنفسهم من نسل الآلهة ، وأصبحت موارد البلاد ملكًا لهؤلاء الملوك يتصرفون فيها ببذخ لا يتصور, ويعيشون عيش البهائم ، حتى ترك كثير من المزارعين أعمالهم أو دخلوا الأديرة والمعابد فرارًا من الضرائب والخدمة العسكرية ، وكانوا وقودًا حقيرًا في حروب طاحنة مدمرة قامت في فترات من التاريخ دامت سنين طوال بين الفرس والروم لا مصلحة للشعوب فيها إلا تنفيذ نزوات ورغبات الملوك. " (السيرة النبوية لمحمد على الصلابي (1/ 11) )
وكانت نتيجة هذه الأديان التي سيطرت على العقلية الفارسية وخاصة عبادة النار وهي " لا توحي إلي عبادها بشريعة ولا ترسل رسولا ، ولا تتدخل في شؤون حياتهم ، ولا تعاقب العصاة والمجرمين ؛ أصبحت الديانة عند المجوس عبارة عن طقوس وتقاليد يؤدنوها في أمكنة خاصة في ساعات خاصة . أما في خارج المعابد ، وفي دورهم ودوائر حكمهم وتصرفهم ، وفي السياسة والاجتماع ، فكانوا أحرارا يسيرون على هواهم ، وما تملي عليهم نفوسهم ، أو ما يؤدي إليه تفكيرهم أو ما توحي بهم مصالحهم ومنافعهم ، شأن المشركين في كل عصر ومصر .
وهكذا حرمت الأمة الإسلامية في حياتها دينا عميقا جامعا يكون تربية النفس ، وتهذيبا للخلق ، وقامعا للشهوات ، وحافزا على التقوى وفعل الخيرات ، ويكون نظاما للأسرة وتدبيرا للمنزل ، وسياسة للدولة ودستورا للأمة ، ويحول بين الناس وطغيان الملوك ، وعسف الحكام ، ويأخذ على يد الظالم ، وينتصف للمظلوم . وأصبح المجوس لا فرق بينهم وبين اللادينيين والإباحيين في الأخلاق والأعمال " ( ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي ص63 ،64)
ولو نظرنا في عصرنا الحالي نجد الأمر ذاته ، ولا يختلف إلا في الشكل ، أما المضمون فهو المضمون ، فإن الحضارة الأوربية الحديثة تنقسم إلى قسمين ، القسم الأول : الناحية الدينية فهي قابعة في الكنائس والأديرة ، لا شأن لها بالحياة الخارجية ، ولا سياسية البلاد .
والقسم الثاني : السياسة : فالساسة لهم أن يحكموا البلاد بما شاءوا من قوانين وأفكار نابعة من محض عقولهم على حسب ما تقتضيه مصلحة البقاء في السلطة والحكم .
ولكن يختلف الأمر إذا كان التعرض لعقائد البلاد جملة ، فهم عند ذلك الدين لهم شعار فقط ، للقتل والسلب والنهب . وليس للأخلاق الحميدة .
والنظر أيضا إلى أهل الأوثان من أهل الشرق كالصين واليابان وغيرها من الدول التي تعبد أصناما في صورا شتى ، كبوذا وزاردشت والبقر والفئران وغيرها .
نجد هذه العبادات تتمثل في المعابد التي شيدوها لهذا الغرض ، أما سياسية البلاد فلا علاقة لها بهذا الدين أو ذاك . لأن هذه الأديان ليست لديها شريعة تحلل حراما أو تحلل حلالا أو ترعى مصلحة أو تدرء مفسدة . وإنما هي مجموعة من الطقوس والأخلاق .
والمسلمون في هذه البلاد يلاقون من التعنت والقهر والانعزالية والنبذ أشبه ما كان يلاقيه المسلمين في العهد المكي .